responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 254
[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 7]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ.
هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِلْحُكْمِ السَّابِقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَة: 6] وَبَيَانٌ لِسَبَبِهِ فِي الْوَاقِعِ لِيَدْفَعَ بِذَلِكَ تَعَجُّبَ الْمُتَعَجِّبِينَ مِنَ اسْتِوَاءِ الْإِنْذَارِ وَعَدَمِهِ عِنْدَهُمْ وَمِنْ عَدَمِ نُفُوذِ الْإِيمَانِ إِلَى نُفُوسِهِمْ مَعَ وُضُوحِ دَلَائِلِهِ، فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ خَتْمًا وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ وَأَنَّ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً عُلِمَ سَبَبُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَبَطُلَ الْعَجَبُ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ يُفِيدُ جَوَابَ سَائِلٍ يَسْأَلُ عَنْ سَبَبِ كَوْنِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ مُقَابِلٌ مُوقِعَ جُمْلَةِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] فَلِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مَكَانَةٌ بَيْنَ ذَمِّ أَصْحَابِهَا بِمِقْدَارِ مَا لِتِلْكَ مِنَ الْمَكَانَةِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى أَرْبَابِهَا.
وَالْخَتْمُ حَقِيقَتُهُ السَّدُّ عَلَى الْإِنَاءِ وَالْغَلْقُ عَلَى الْكِتَابِ بِطِينٍ وَنَحْوِهِ مَعَ وَضْعِ عَلَامَةٍ
مَرْسُومَةٍ فِي خَاتَمٍ لِيَمْنَعَ ذَلِكَ مِنْ فَتْحِ الْمَخْتُومِ، فَإِذَا فُتِحَ عَلِمَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ فُتِحَ لِفَسَادٍ يَظْهَرُ فِي أَثَرِ النَّقْشِ وَقَدِ اتَّخَذَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا لِذَلِكَ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَخْتِمُ عَلَى قَوَارِيرِ الْخَمْرِ لِيُصْلِحَهَا انْحِبَاسُ الْهَوَاءِ عَنْهَا وَتَسْلَمَ مِنَ الْأَقْذَارِ فِي مُدَّةِ تَعْتِيقِهَا. وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْبُلُوغِ لِآخِرِ الشَّيْءِ خَتْمًا فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ أَوْ ذَلِكَ الْوَقْتَ هُوَ ظَرْفُ وَضْعِ الْخَتْمِ فَيُسَمَّى بِهِ مَجَازًا. وَالْخَاتَمُ بِفَتْحِ التَّاءِ الطِّينُ الْمَوْضُوعُ عَلَى الْمَكَانِ الْمَخْتُومِ، وَأَطْلَقَ عَلَى الْقَالَبِ الْمَنْقُوشِ فِيهِ عَلَامَةٌ أَوْ كِتَابَةٌ يُطْبَعُ بِهَا عَلَى الطِّينِ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَطِينُ الْخَتْمِ طِينٌ خَاصٌّ يُشْبِهُ الْجِبْسَ يُبَلُّ بِمَاءٍ وَنَحْوِهِ وَيُشَدُّ عَلَى الْمَوْضِعِ الْمَخْتُومِ فَإِذَا جَفَّ كَانَ قَوِيَّ الشَّدِّ لَا يُقْلَعُ بِسُهُولَةٍ وَهُوَ يَكُونُ قِطَعًا صَغِيرَةً كُلُّ قِطْعَةٍ بِمِقْدَارِ مُضْغَةٍ وَكَانُوا يَجْعَلُونَهُ خَوَاتِيمَ فِي رِقَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَالَ بَشَّارٌ:
خَتَمَ الْحُبُّ لَهَا فِي عُنُقِي ... مَوْضِعَ الْخَاتَمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَمِ
وَالْغِشَاوَةُ فِعَالَةٌ مِنْ غَشَاهُ وَتَغَشَّاهُ إِذَا حَجَبَهُ وَمِمَّا يُصَاغُ لَهُ وَزْنُ فِعَالَةٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ مَعْنَى الِاشْتِمَالِ عَلَى شَيْءٍ مِثْلَ الْعِمَامَةِ وَالْعِلَاوَةِ وَاللِّفَافَةِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ صَوْغَ هَذِهِ الزِّنَةِ لِلصِّنَاعَاتِ كَالْخِيَاطَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الِاشْتِمَالِ الْمَجَازِيِّ وَمَعْنَى الْغِشَاوَةِ الْغِطَاءُ.
وَلَيْسَ الْخَتْمُ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ وَلَا الْغِشَاوَةُ عَلَى الْأَبْصَارِ هُنَا حَقِيقَةً كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بَلْ ذَلِكَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ بِأَنْ جَعَلَ قُلُوبَهُمْ أَيْ عُقُولَهُمْ فِي عَدَمِ نُفُوذِ الْإِيمَانِ وَالْحَقِّ

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 254
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست